مسلسل السرايا 2 .. ملحمة تاريخية ترصد بطولات الشعب الليبي/ كتب: محمد حبوشة

مسلسل السرايا 2 .. ملحمة تاريخية ترصد بطولات الشعب الليبي/ كتب: محمد حبوشة

كتب: محمد حبوشة

نجح المخرج الليبي أسامة زرق بمسلسله التاريخي الرائع السرايا 2 ، في لفت الأنظار في قلب الموسم الدرامي الرمضاني العربي 2023 الذي حظي بمنافسة قوية على كافة المستويات الدرامية (تاريخي، ديني، اجتماعي، أكشن) وغيرها من ألوان الدراما، وأثبت أنه الجمهور العربي مازال لديه شغف كبير في الإقبال على المسلسلات التاريخية الليبية.

فبحسب رزق: هناك شريحة كبيرة من الجمهور مهتمون بمتابعة ومشاهدة التاريخ الليبي في أعمال درامية، لأن الفترة ما قبل 2011 كانت المادة التاريخية مثل: الكتب، والروايات، والقصص، والبرامج التاريخية الليبية شبه معدومة، وذلك بسبب الأوامر المفروضة بعدم الحديث عن تلك الفترات من تاريخ ليبيا، وأصبح لدى الشعب الليبي فجوة تاريخية كبرى، ولم يكن لديهم دراية كبيرة بتاريخ ليبيا. ولعل صناع السرايا 2 ، أدركوا أنهم في مهمة وطنية لإبراز تاريخ بلد كان لفترة طويلة خارج صفحات التاريخ.

يرصد سرايا 2 من خلال أحداثه حقائق تاريخية حول هزيمة أمريكا على يد يوسف باشا القرمانلي (باشا إيالة طرابلس الغرب)، والذي تمتع برباطة جأش شديدة، بفضل شجاعة بحارته الذين مارسوا الكر والفر بطريقة احترافية في مواجهة السفن الأمريكية التي حاصرت طرابلس، وأجبرتها على الانسحاب من المستنقع الذي وقعت فيه. مسلسل السرايا 2، قدم أضاءة عبر كاميرا أسامة رزق على أن أرشيف الأعمال في ليبيا الذي كان قبل تصديه لهذه النوعية من الدراما شبه معدوم، لكنه أكد من خلال أعماله الأخيرة على فخر واعتزاز الليبيين بأن لهم نصيبا كبيرا من تاريخ الأعمال التاريخية في ليبيا، ابتداء من مسلسل (زنقة الريح) في جزئه الأول، والذي تتناول أحداثه الفترة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ومسلسل (زنقة الريح) الجزء الثاني الذي يتناول فترة حكم الإدارة البريطانية، ومسلسل (الزعيمان) الذي تناول فترة احتلال إيطاليا لدولة ليبيا في 1911، ومسلسل (غسق) الذي تدور أحداثه في فترة تاريخية قريبة جداً، ومسلسل (السرايا) الجزآن الأول والثاني، اللذان تدور أحداثهما حول فترة حكم عائلة القرمانلي.

صحيح أن مسلسل السرايا 2 ، أصاب الشعب الليبي بصدمة بعد عرضه، هو وتلك الأعمال التي ذكرناها حيث نقلت لهم معلومات تاريخية لم يكونوا على دراية بها، ولكن كان هدف (رزق) من خلال تلك الأعمال ذات الصبغة التاريخية هو إنعاش الذاكرة التاريخية لدى المواطن الليبي، من خلال أحداث تركز على بطولات الليبيين ضد المستعمر الذي حاول نهب ثروات البلاد وإذلال العباد، وهذا ربما جعل أبناء الشعب الليبيي يبحثون من جديد في كتب التاريخ لمعرفة الأحداث التي كانت تدور في الحقبة التي يتحدث عنها المسلسل المقدم لهم، ليكتشوا أن تاريخهم مرصع بالبطولات التي صنعها الأجداد والأباء على التراب الليبيي. بصورة مبهرة وملابس وموسيقى تصويرية معبرة وأداء متقن من جانب فريق التمثيل، وتحكم احترافي بديع من جانب المخرج المجتهد كثيرا أسامة رزق استعرض السرايا 2 ، من تأليف سراج هويدي، أهم أحداث حقبة تعود إلى 200 عام مضت، وهى الفترة التي تولت فيها عائلة القرمانلي حكم طرابلس في ملحمة تاريخية، تجمع بين الاجتماعي والرومانسي والحركة والمعارك باستخدام الجرافيكس ودمجة بمناظر طبيعية تعكس ثراء البيئة الليبية – رغم أن المسلسل تم تصويره في تونس – إذ يسلط هذا الجزء من المسلسل الضوء على الصراع بين ليبيا والولايات المتحدة، ويجسد حرب السنوات الأربع التي وقعت خلال الفترة بين 1801 و1805، والتي انتهت بحرق سفينة (فيلادلفيا) بعد أسرها.

ويكشف المسلسل أيضا الصراع الذي حدث بين أبناء علي باشا القرمانلي على حكم طرابلس، في قالب درامي شيق يجمع بين السياسة والتاريخ والرومانسية في قالب مشوق للغاية على مستوى صناعة الدراما الليبية التي تقوى على المنافسة.

ربما واجهت أسامة رزق في مسلسل السرايا 2 ، كثير من الصعوبات في رصد أحداث فترة حكم عائلة القرمانلي، حيث من الصعب تقديم كل الأحداث التي وقعت في فترة حكم يوسف باشا حتى انتهاء فترة حكم عائلة القرمانلي في 1935، في 10 أو 15 حلقة فقط، لذا قرروا تناول سنين محددة منها باعتبارها ثرية بالمعلومات التاريخية التي أسهمت في تشكيل الدولة الليبية، ومن ثم ركز المؤلف في الجزء الثاني من السرايا على دهاء وقوة يوسف باشا سليل عائلة القرمانلي، وذكاؤه في التعامل مع الدول العظمى، مثل الولايات المتحدة، بريطانيا، الدنمارك، النرويج، فرنسا، السويد، في الوقت الذي كانت فيه مدينة طرابلس إيالة صغيرة، لكنه تمكن من رفع مكانتها بين دول العالم الكبرى، حتى أصبحت رمزا لهيبة هذه الإيالة.

وتتنوع أحداث السرايا 2، إذ يتداخل فيها العديد من الأحداث والقصص الاجتماعية، والرومانسية المرتبطة بالواقع الليبي في هذه الفترة، لكن الجزء الأكبر من الأحداث مرتبط بفترة الحرب مع أميركا، ومن خلال الحلقات، حاول صناع العمل لفت انتباه المشاهدين إلى الاستماع والتعرف على تاريخ الدولة وتوثيقها بشكل يجذب الجماهير، وذلك من خلال السياق الدرامي للشخصيات البارزة في العمل أبناء يوسف باشا وهم (محمد بك وأحمد وعلي)، وناقش المسلسل بشكل ذكي مشكلة الصراع الكبير الذي دار بين الأبناء على الحكم وتولي العرش من بعده، خاصة محمد بك الذي أصيب بجنون تولي العرش.

ورغم أن تلك العائلة حكمت ليبيا لأكثر من 100 عام، إلا أن العمل سلط أضواء كاشفة على أربع سنوات فقط منها، باعتبارها ثرية بالمعلومات التاريخية التي ساهمت في تشكيل الدولة الليبية، وسعى صناع العمل إلى إظهار العمل الفني بالروح القديمة لأبطال الحدث وزمانه، حيث تعمد المؤلف سراج هويدي، كتابة النص كاملا باللغة الطرابسية القديمة، التي ما عاد أغلبها يستخدم في الحياة الدارجة، وذلك لجذب المشاهدين إلى الاستماع والتعرف على اللغة القديمة لليبيين، خاصة وأنه في تلك الفترة كانت كافة أرجاء ليبيا من أدناها إلى أقصاها يعرف بطرابلس، ويبدو لي أن أصعب ما واجه صناع العمل في هذا الاتجاه، بقيادة رزق، هو اختيار الملابس والديكورات والإكسسورات الخاصة بأبطال العمل، ولهذا تمت الاستعانة بمصادر عديدة للتعرف على الأزياء الرائجة في تلك الفترة الزمنية البعيدة، من أجل توثيقها بشكل يجذب الجماهير.

من الشائع دوما أن تتعرض المسلسلات التاريخية أو المبنية على حكايات تاريخية إلى انتقادات حادة، فالمشاهد لا يفصل بين العمل التاريخي والعمل الإبداعي بما يحتويه من إضافات على مستوى الحوار والنص، وهو ما تعرض له مسلسل السرايا 2 الليبي في جزئه الثاني، حيث اتهم بإساءته إلى قبائل ليبية وإثارته الفتنة والعنصرية بعرضه مغالطات تاريخية – على حد فهم الجمهور – ، وأثار جدلا واسعا في الأوساط الاجتماعية والسياسية، فيما أعلن مخرجه أسامة رزق أنه لن يكون حاضرا في الدراما الليبية العام القادم، وقال في تدوينة على حسابه على فيسبوك (تمر اليوم 11 سنة على إخراج أحلام جميلة أحببتها وقدمتها للمشاهد الليبي على مدار 10 مواسم رمضانية)، مؤكدا أنه يتجه نحو تجربة عربية مهمة في مسيرته.

بقي لي أن أشيد ببراعة فريق التمثيل وعلى رسهم الفنان الكبير محمد عثمان، الذي صال وجال مع شخصية باشا طرابس (يوسف الكراماني) بأسلوب السهل الممتنع على مستوى الحركة والسكون والإيماء، وذلك بلغة جسد معبرة للغاية في ذهابه وإيابه بدهاء وذكاء يحسد عليه، ليثبت أن ليبيا تحوى مواهب عظيمة يمكن أن تعبر جيدا عن دراما حقيقية مستمدة من تاريخ عريق يشهد على بطولات الآباء الأجداد الذين تواروا طويلا خلف بوابة التاريخ.

نضال كحلول، الذي جسد شخصية (إسماعيل) امتلك حضورا طاغيا تماما كما امتلك نفس الحضور في مسلسله العام الماضي (غسق)، لكنه هنا في السرايا 2 عبر بلغة الصمت أكثر من الكلام عبر عينين استطاعتا أن توحي بالكثير بشكل مذهل، رغم أنه ظهر ملثما في أغلب المشاهد، لكن الشرر المتطاير من عينيه غالب كل حركة في إظهار حقده على مجتمع ظلمه كثيرا.

كما برع الفنان القدير بيير داغر، في لعب دور الرئيس الأمريكي (توماس جيفرسون)، حيث استخدم تون صوتا اتسم بالهدوء، لكنه عكس جبروت أمريكا في تحديها ليوسف باشا الكرمانلي، وذهب (بيير) في هذا الدور إلي مناطق غير مأهولة في الأداء التاريخي البارع الذي تفوق فيه قبل ذلك في أعمال كثيرة، ومن ثم قدم درسا عمليا في إتقان الأداء على نحو احترافي باللغة العربية الفصحى، وقد صنع دويتو رائعا مع النجم السوري الذي جسد شخصية وزير الخارجية جيمس مادسون، في ظهورهما الخاص في السرايا 2، وعلى قدر صغر مساحة الدورين لكنهما تركا أثرا بالغا في ثنايا أحداث اتسمت بالإثارة والتشويق.

كما أجاد أيضا ربيع القاطي في دور القنصل الأمريكي جيمس كاتاركت بحنكة ممثل قادر على الذوبان في الشخصية. وعلى درب الأداء الجيد أيضا جاءت شكران مرتجي، لتكتب صفحة جديدة في سجلها الدرامي بأداء عذب وإتقان للهجة الطرابلسية القديمة على جناح نوع من التجسيد الحي الذي يشير إلى أنها ممثلة من العيار الثقيل، وتثبت وجودها في أي بيئة تطل من خلالها على الجمهور العربي، لقد بدت شكران بمثابة طيف جميل أكسب العمل بعدا آخر إلى جانب ممثلات ليبيات كن ينافسنها بقوة في لوحة السرايا 2، مثل (راندة عبد اللطيف، هند العرفية، سلسبيل عبد الرزاق محمد).

أما فاكهة مسلسل السرايا 2 ، فكانت الفنانة الشابة يسر الشريف، التي لعبت دور حبيبة الدغيس، على نحو شديد العذوبة، فقد أجادت في تجسيد شخصية الفتاة الرومانسية شديدة الشفافية والنقاء، بشكل يجعلها أيقونة الرومانسية الجديدة في الدراما الليبية على نحو خاص، وفي الدراما العربية بشكل عام في موسم دراما رمضان 2023، بفرط من فطرية آسرة.

ويظل الفنان سعيد المهدي الذي جسد شخصية محمد بك – ابن يوسف الكراماني هو الأجدر والأحق بالتقدير والاحترام جراء دهشته الإبداعية بحركة جسد تتسم بالخشونة والمرونة في آن واحد، ولعله قدم أداء مذهلا بأسلوب الثعلب الماكر، فعلى الرغم من لهوه ومجونه إلا أن ولعه للسلطة لم يمنعه من ممارسة العنف والقسوة مع شقيقه أحمد أو حتى والده الباشا يوسف الذي فكر في التخلص منه فور إخباره بسحب الباكوية منه.

وأخيرا لابد لي من تحية تقدير واحترام للمخرج أسامة رزق الذي برع في احتواء فريق عمل السرايا 2 على نحو جيد، ومن قبله (الزعيمان، غسق، زنقة الريح) وغيرها من أعمال تضعه الآن في مصاف المخرجين العرب البارعين حقا، بفضل حنكته في تحريك الكاميرا بزوايا ذكية والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة في خط مستقيم يضمن نجاح العمل، وظني أنه يكتب تاريخا جديدا للدراما الليبية بعد أن دفعها بقوة إلى حلبة المنافسة.