بقلم: د. صخر محمد المور الهقيش
وكالة محليات الاخباري – عمان – في عالمنا الرقمي اليوم، لم تعد الشهرة دائمًا نتيجة جهد أو إبداع أو فكر مثمر، بل أصبحت أحيانًا غاية في حد ذاتها تُنال بالصخب والظهور اللافت، حتى لو كان المحتوى فارغًا من القيمة الحقيقية. تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات يتسابق فيها الجميع نحو الضوء؛ بعضهم حاملاً معرفة ورسالة، وآخرون يروجون للعبث والهزل دون أي مضمون.
انتقل مفهوم التأثير من الفكرة والرسالة إلى السطحية والمظاهر؛ فاعتقد كثيرون أن مجرد الظهور أمام الكاميرا يكفي لصناعة النجاح. امتلأت المنصات بمقاطع ترفيهية تافهة، ضحكها مصطنع، وهدفها الوحيد جمع أكبر عدد من المتابعين. أصبح الانتباه المقياس، لا القيمة الحقيقية. هذا الانحدار لا يضر الذوق العام فحسب، بل يكشف عن أزمة وعي تهدد القيم الفكرية والأخلاقية للمجتمع.
نحن أمام مشهد مقلق؛ أصحاب الفكر والرسالة يختفون إلى الظل، بينما يعلو صخب الابتذال على السطح. من يقدم علمًا أو فكرة يُتجاهل، ومن يقدم التفاهة يُصفق له، ومن يسخر من ذاته يُكافأ بمئات الآلاف من المشاهدات. إنه واقع رقمي تقاس فيه الشهرة بعدد الإعجابات، لا بما يقدمه الشخص من أثر مستدام.
الأدهى أن الأجيال الشابة بدأت تعتبر هؤلاء رموزًا، فتتكوّن لديها رؤية مشوهة تقول إن النجاح لا يحتاج إلى علم أو اجتهاد، بل إلى الجرأة على الترفيه السطحي. ومع مرور الوقت، يتحول الهزل إلى أسلوب حياة، ويصبح الفراغ الفكري ثقافة عامة، في غياب القدوة الهادفة والمحتوى الهادف.
من هنا تبرز الحاجة الملحة لوضع ضوابط واضحة وتنظيم المحتوى المتداول. فحرية التعبير لا تعني الفوضى، وحرية النشر لا تبرر الابتذال أو الإساءة. التوازن بين الحرية والمسؤولية هو ما يحمي المجتمع من الانحدار الفكري وتآكل القيم.
المسؤولية لا تقع على صُنّاع المحتوى وحدهم، بل تمتد إلى الجمهور الذي يمنح الشهرة بالمتابعة والمشاركة. كل إعجاب أو مشاركة هو تصويت خفي لما يجب أن يسود في الفضاء الرقمي. وعندما يركز الجمهور على التافه ويتجاهل المفيد، فإنه يساهم في تآكل الذوق العام. الوعي الجمعي هو الحارس الحقيقي لقيمة المحتوى، لا القوانين وحدها.
لمواجهة هذه الظاهرة، يجب تكاتف الأسرة والمدرسة والإعلام والمؤسسات الرسمية لترسيخ ثقافة الاستخدام الواعي للتكنولوجيا. التربية الرقمية جزء أساسي من التعليم والتنشئة، لتعليم الأجيال التمييز بين ما يرفع مستوى فكرهم وما يضيع وقتهم ويضعف شخصيتهم.
كما ينبغي توجيه الجهود لدعم المحتوى الإيجابي والمبدع، وتشجيع المبادرات التي تعزز القيم والمعرفة، بدل الاقتصار على النقد أو المنع. المعركة ليست ضد المنصات، بل ضد الفراغ الذي يملؤها، وضد العجز عن تقديم البديل الهادف.
إن حماية الوعي الجمعي لا يتحقق بالصمت، بل بالعمل المستمر على إنتاج محتوى يليق بالعقل والفكر. يجب إعادة تعريف الشهرة على أنها مسؤولية قبل أن تكون مجدًا، ورفع معيار الفكر فوق عدد المتابعين. المجتمعات التي تقيس قيمتها بما يُعرض على شاشاتها تدريجيًا تفقد معناها وهويتها.
وفي الختام، الحقيقة واضحة: الأمم لا تنهض بالضجيج، بل بالعقول، ولا تُقاس بضحكات عابرة، بل بما تزرعه من وعي وتحافظ عليه من قيم وكرامة.