السهيل تكتب … أحبها الصحابة وخلّدها التاريخ .

السهيل تكتب … أحبها الصحابة وخلّدها التاريخ  .

 

بقلم : سارة طالب السهيل  

وكالة محليات الاخباري – عمان – في صفحات التاريخ الإسلامي، تتلألأ أسماء النساء اللواتي تركن بصمات لا تُمحى، لكن اسم عاتكة بنت زيد يظل لامعًا بخصوصيته، فقد جمعت بين جمال الروح وفصاحة اللسان ورهافة الحس الشعري، حتى لقبها المؤرخون بـ “شاعرة الإسلام الأولى. كانت امرأة تعرف كيف تحب، وكيف ترثي، وكيف تصوغ الحروف بمداد القلب.

ولدت عاتكة في بيت قرشي نبيل، فهي ابنة زيد بن عمرو بن نفيل، ذلك الحنيف الذي رفض عبادة الأصنام قبل الإسلام، وبحث عن دين إبراهيم، وأخت سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، هذا النسب المضيء جعلها قريبة من قلب الدعوة منذ فجرها الأول، وحاضرة في حلقات الصحابة الأوائل، تلتقي النخبة من أهل الرأي والشجاعة، وتتشرب من بيئة حافلة بالقيم والمروءة.

القلب وسلاح الذاكرة

لم تكن عاتكة شاعرة للتسلية أو الغزل العابر فحسب، بل كانت شاعرة متوقدة، تستخدم القافية لتوثيق المواقف، وحفظ البطولات، وبث القيم الإسلامية، كانت صوتا للألم النبيل، ركّزت في أشعارها على الرثاء، حتى عُدّت من أعلام هذا الفن في صدر الإسلام. كانت أبياتها تصوغ الحزن ببلاغة، لكنها تحوله أيضا إلى مدح وإعلاء لقدر الشهداء، تحفظ أبياتها صور الشهداء وتاريخهم كان شعرها صادقًا، متدفقًا، يخلو من التصنع، وتطغى عليه حرارة المشاعر، لكنها لا تغفل عن إبراز بطولات من ترثيهم.

كانت عاتكة شخصية جريئة، مثقفة، واعية بحقوقها، تعرف قدر نفسها بين الرجال العظماء. لم تكن مجرد زوجة في الظل، بل كانت شريكة فكر وموقف. جلس في بيتها كبار الصحابة، وتحدثت في شؤون الدين والدنيا. وكانت فصيحة واثقة من رأيها لا تترد في التعبير عن موقفها اشتهرت بين نساء الصحابة بصدقها ونزاهتها، حتى إن من جالسها شعر أنه أمام عقل راجح وقلب عامر بالإيمان. أحبها أزواجها لصفاء سريرتها، وأحبها الناس لفصاحة لسانها ورقة قلبها.

أسطورة عاتكة والزواج

من الطريف أن بعض المؤرخين كانوا يروون عنها “أسطورة” مفادها أن من يتزوجها ينال الشهادة، حتى صار الخطّاب يهابون الزواج بها، لكنها كانت ترى في ذلك تكريماً، إذ إن حياتها ارتبطت برجال قضوا دفاعا عن الحق. الأسطورة لم تكن لعنة، بل شهادة وفاء، فقد كانت عاتكة نموذج المرأة التي تشارك زوجها طريق الجهاد والمجد، ثم تودعه بقصيدة تبقيه حيًا في الذاكرة.

قد تبدو حياتها العاطفية كقصيدة طويلة، تتنقل أبياتها بين الحب والفقد، إذ تزوجت أكثر من صحابي جليل، وكل قصة زواج لها كانت تنتهي بفاجعة استشهاد الزوج، لتخلّد ذكراه شعراً.

– عبد الله بن أبي بكر الصديق كان أول أزواجها، فقدته مبكرًا بعد إصابته في غزوة الطائف، فرثته بأبيات مؤثرة، قالت فيها:

رزئتُ بخيرِ الناسِ بعد نبيِّنا…

وبعد أبي بكرٍ، وما كان قصّرا

– الزبير بن العوام فارس الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، عاش معها أياماً من المودة، ثم ودعته شهيدا في معركة الجمل، لتكتب فيه رثاءً خالداً، يقطر أسىً وفخراً. من رثائها المؤثر في الزبير بن العوام:

حامي الحقيقةِ، كلُّ يومٍ مَعرَكة

يُثني السيوفَ عنِ الحرامِ، ويحميها

– عبد الله بن عمر بن الخطاب تزوج عاتكة بنت زيد، هذا الزواج يُعد من الروابط المعروفة في السيرة، رغم أن التاريخ لا يُحدد بالضبط متى حدث، لكنه يذكر ضمن زيجاتها التي تميزت بمعاناة الفقد والاشتياق بعد زواجها بشهيد آخر. تزوجت بعد ذلك من أحد كبار الصحابة أو التابعين، لكن نهايات الزيجات كانت دائما تُكتب بدم الشهادة، حتى قالوا إن من يتزوج عاتكة لا يطول به المقام حتى يمضي إلى الجنة.

بعد رحيل أزواجها الواحد تلو الآخر، لم تنطوِ عاتكة على حزنها، بل تحولت إلى رمز للتعزية والمواساة بين نساء المسلمين. كانت تستقبل الأرامل والثكالى، تواسيهن بكلمات حارة أو بيت شعر صادق، وكأنها تعرف لغة الجرح المشترك. وهكذا تحولت مأساتها الشخصية إلى رسالة جماعية عن الصبر والرضا بالقضاء.

أصبح اسم عاتكة يرمز إلى المرأة التي اجتمع فيها الحب والإيمان والصبر، المرأة التي تحوّل فجيعتها إلى قصيدة، وتبقى وفية حتى آخر العمر. ولم يكن ذلك رمزية أدبية فحسب، بل صورة حية لما يمكن أن تكون عليه المرأة المسلمة الفاعلة في مجتمعها.

عاتكة بنت زيد في المصادر التاريخية تذكر باعتبارها من النساء الصالحات، الصادقات في السيرة. ولم يقتصر اهتمام المؤرخين بها على شعرها أو زواجها، بل أُكِّد نزاهتها وصدقها في رواية الحديث، رغم أنَّ نقلها للروايات لا يتصدر لها ذكرًا واسعاً، لكن شهرتها بين النسوة من الصحابيات تؤكد ثقة الناس بها.

وتظل عاتكة بنت زيد في رأيي ورأي الكثيرين مثالا على أن المرأة المسلمة في صدر الإسلام لم تكن متفرجة على مجريات الأحداث، بل كانت جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي. وعبر قصائدها، نسمع خفق قلبها مع كل شهيد أحبته، ونرى كيف تحوّل الألم إلى شعر خالد، يحمل عبق الوفاء ووهج الإيمان.

الرأي